سورة الإسراء - تفسير تفسير ابن عطية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الإسراء)


        


هذه الآية احتجاج عليهم فيما استبعدوه من العبث، وذلك أنهم قرروا على خلق الله تعالى واختراعه لهذه الجملة التي البشر جزء منها، فهم لا ينكرون ذلك، فكيف يصح لهم أن يقروا بخلقه للكل وإخراجه من خمول العدم وينكرون إعادته للبعض؟ فحصل الأمر في حيز الجواز، وأخبر الصادق الذي قامت دلائل معجزاته بوقوع ذلك الجائز، والرؤية في هذه الآية رؤية القلب، والأجل هنا يحتمل أن يريد به القيامة ويحتمل أن يريد أجل الموت، والأجل على هذا التأويل اسم جنس لأنه وضعه موضع الآجال، ومقصد هذا الكلام بيان قدرة الله عز وجل وملكه لخلقه، وبتقرير ذلك يقوى جواز بعثه لهم حين يشاء لا إله إلا هو، وقوله {فأبى} عبارة عن تكسبهم وجنوحهم، وقد مضى تفسير هذه الآيات آنفاً، وقوله تعالى: {قل لو أنتم تملكون} الآية حكم لو أن يليها الفعل إما مظهراً وإما مضمراً يفسره الظاهر بعد ذلك، فالتقدير هنا، قل لو تملكون خزائن، ف {أنتم} رفع على تبع الضمير، والرحمة في هذه الآية المال والنعم التي تصرف في الأرزاق، ومن هذا سميت {رحمة}، و{الإنفاق} المعروف ذهاب المال وهو مؤد إلى الفقر، فكأن المعنى خشية عاقبة الإنفاق، وقال بعض اللغويين أنفق الرجل معناه افتقر كما تقول أترب وأقتر، وقوله {وكان الإنسان فتوراً} أي ممسكاً، يريد أن في طبعه ومنتهى نظره أن الأشياء تتناهى وتفنى، فهو لو ملك خزائن رحمة الله لأمسك خشية الفقر، وكذلك يظن أن قدرة الله تعالى تقف دون البعث، والأمر ليس كذلك، بل قدرته لا تتناهى، فهو مخترع من الخلق ما يشاء، ويخترع من الرحمة الأرزاق، فلا يخاف نفاد خزائن رحمته، وبهذا النظر تتلبس هذه الآية بما قبلها، والله ولي التوفيق برحمته، ومن الإقتار قول أبي داود: [الخفيف]
لا أعد الإقتار عدماً ولكن *** فقد من قد رزئته الإعدام
وقوله تعالى: {ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات} اتفق المتأولون والرواة أن الآيات الخمس التي في سورة الأعراف هي من هذه التسع، وهي الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، واختلفوا في الأربع، فقال ابن عباس: هي يده ولسانه حين انحلت عقدته، وعصاه والبحر، وقال محمد بن كعب القرطبي: هي البحر والعصا والطمسة والحجر، وقال سألني عن ذلك عمر بن عبد العزيز فأخبرته، فقال لي: وما الطمسة؟ فقلت دعا موسى وآمن هارون فطمس الله أموالهم وردها حجارة، فقال عمر: وهل يكون الفقه إلا هكذا؟ ثم دعا بخريطة فيها غرائب كانت لعبد العزيز بن مروان، جمعها بمصر، فاستخرج منها الحوزة والبيضة والعدسة وهي كلها حجر كانت من بقايا أموال آل فرعون، وقال الضحاك: هي إلقاء العصا مرتين، واليد، وعقدة لسانه، وقال عكرمة ومطر الوراق، والشعبي: هي العصا واليد والسنون ونقص الثمرات، وقال الحسن: هي العصا في كونها ثعباناً وتلقف العصا ما يأفكون، وقال ابن عباس: هي السنون في بواديهم، ونقص الثمرات في قراهم، واليد، والعصا، وروى مطرف عن مالك أنها العصا، واليد، والجبل إذ نتق، والبحر، وروى ابن وهب عنه مكان البحر الحجر، والذي يلزم من الآية أن الله تعالى خص من آيات موسى إذ هي كثيرة جداً تنيف على أربع وعشرين، تسعاً بالذكر ووصفها بالبيان ولم يعينها، واختلف العلماء في تعيينها بحسب اجتهادهم في بيانها أو روايتهم التوقيف في ذلك، وقالت فرقة آيات موسى إنما أريد بها آيات التوراة التي هي أوامر ونواه، روى في هذا صفوان بن عسال، أن يهود المدينة قال لآخر: سر بنا إلى هذا النبي نسأله عن آيات موسى، فقال له الآخر: لا تقل إنه نبي، فإنه لو سمعك صار له أربع أعين، قال: فسارا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألاه، فقال
«هن أن لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرفوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تمشوا ببريء إلى سلطان ليقتله، ولا تسحروا، ولا تأكلوا الربا، ولا تقذفوا المحصنة، ولا تفروا يوم الزحف، وعليكم خاصة يهود أن لا تعدوا في السبت»، وقرأ الجمهور {فاسأل بني إسرائيل} وروي عن الكسائي فسل على لغة من قال سأل يسأل، وهذا كله على معنى الأمر لمحمد صلى الله عليه وسلم، أي اسأل معاصريك عما أعلمناك به من غيب القصة، ثم قال: {إذ جاءهم} يريد آباءهم، وأدخلهم في الضمير إذ هم منهم، ويحتمل أن يريد {فاسأل بني إسرائيل} الأولين الذين جاءهم موسى وتكون إحالته إياه على سؤالهم بطلب إخبارهم والنظر في أحوالهم وما في كتبهم نحو قوله تعالى: {واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا} [الزخرف: 45] وهذا كما تقول لمن تعظه: سل الأمم الخالية هل بقي منها مخلد؟ ونحو هذا مما يجعل النظر فيه مكان السؤال، قال الحسن: سؤالك نظرك في القرآن وقرأ ابن عباس {فسأل بني إسرائيل} أي فسأل موسى فرعون بني إسرائيل أي طلبهم لينجيهم من العذاب، وقوله {مسحوراً} اختلف فيه المتأولون، فقالت فرقة هو مفعول على بابه، أي إنك قد سحرت، فكلامك مختل، وما تأتي به غير مستقيم، وقال الطبري: هو مفعول بمعنى فاعل كما قال: {حجاباً مستوراً} [الإسراء: 45] وكما قالوا مشؤوم وميمون وإنما هو شايم ويامن.
قال القاضي أبو محمد: وهذا لا يتخرج إلى على النسب أي ذا سحر ملكته وعلمته، فأنت تأتي بهذه الغرائب لذلك، وهذه مخاطبة تنقص، فيستقيم أن يكون {مسحوراً} مفعولاً على ظاهره، وعلى أن يكون بمعنى ساحر يعارضنا ما حكي عنهم أنهم قالوا له على جهة المدح {يا أيها الساحر ادع لنا ربك} [الزخرف: 49] فإما أن يكون القائلون هنالك ليس فيهم فرعون وإما أن يكون فيهم لكنه تنقل من تنقصه إلى تعظيمه، وفي هذا نظر.


روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره أنه قرأ {علمتُ} بتاء المتكلم مضمومة، وقال ما علم عدو الله قط، وإنما علم موسى، وتتقوى هذه القراءة لمن تأول {مسحوراً} [الإسراء: 101] على بابه، فلما رماه فرعون بأنه قد سحر ففسد نظره وعقله وكلامه، رد هو عليه بأنه يعلم آيات الله، وأنه ليس بمسحور، بل محرر لما يأتي به، وهي قراءة الكسائي، وقرأ الجمهور {لقد علمتَ} بتاء المخاطب مفتوحة، فكأن موسى عليه السلام رماه بأنه يكفر عناداً، ومن قال بوقوع الكفر عناداً فله تعلق بهذه الآية، وجعلها كقوله عز وجل: {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم} [النمل: 14]، وقد حكى الطبري ذلك عن ابن عباس، ونحا إلى ذلك الزجاج، وهي معرضة للاحتمال على أن يكون قول موسى عليه السلام إبلاغاً على فرعون في التوبيخ، أي أنت بحال من يعلم هذا، وهي من الوضوح بحيث تعلمها، ولم يكن ذلك على جهة الخبر عن علم فرعون، ومن يريد من الآية وقوع الكفر عناداً فإنما يجعل هذا خبراً من موسى عن علم فرعون، والإشارة ب {هؤلاء} إلى التسع الآيات، وقوله {بصائر} جمع بصيرة، وهي الطريقة أي طرائق يهتدي بها، وكذلك غلب على البصيرة أنها تستعمل في طريقة النفس في نظرها واعتقادها، ونصب {بصائر} على الحال، والمثبور المهلك، قاله مجاهد، وقال ابن عباس والضحاك هو المغلوب، وقال ابن زيد هو المخبول، وروي عن ابن عباس أنه فسره بالملعون، وقال بعض العلماء: كان موسى عليه السلام في أول أمره يجزع، ويؤمر بالقول اللين، ويطلب الوزير، فلما تقوت نفسه بقوى النبوءة، تجلد وقابل فرعون بأكثر مما أمره به بحسب اجتهاده الجائر له، قال ابن زيد: اجترأ موسى أن يقول له فوق ما أمره الله به، وقالت فرقة بل المثبور المغلوب المختدع، وما كان موسى عليه السلام ليكون لعاناً، ومن اللفظة قول عبد الله بن الزبعرى: [الخفيف]
إذا جاري الشيطان في سنن الغ *** ي ومن مال ميله مثبورا
وقوله عز وجل {فأراد أن يستفزهم} الآية، {يستفزهم} معناه يستخفهم ويقلعهم، إما بقتل أو بإجلاء، و{الأرض} أرض مصر، وقد تقدم أنه متى ذكرت الأرض عموماً فإنما يراد بها ما يناسب القصة المتكلم فيها، وقد يحسن عمومها في بعض القصص.
قال القاضي أبو محمد: واقتضبت هذه الآية قصص موسى مع فرعون وإنما ذكرت عظم الأمر وخطيره، وذلك طرفاه، أراد فرعون غلبتهم وقتلهم وهذا كان بدء الأمر {فأغرقه} الله أغرق جنوده وهذا كان نهاية الأمر، ثم ذكر تعالى أمر {بني إسرائيل} بعد إغراق فرعون بسكنى أرض الشام، و{وعد الآخرة} هو يوم القيامة، واللفيف الجمع المختلط الذي قد لف بعضه إلى بعض، فليس ثم قبائل ولا انحياز، قال بعض اللغويين: هو من أسماء الجموع ولا واحد له من لفظه، وقال الطبري هو بمعنى المصدر كقول القائل لففته لفاً و{لفيفاً} وفي هذا نظر فتأمله.


الضمير في قوله {أنزلناه} عائد على القرآن المذكور، وفي قوله {ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل} [الإسراء: 89] ويجوز أن يكون الكلام آنفاً. وأشار بالضمير إلى القرآن على ذكر متقدم لشهرته، كما قال: {حتى توارت بالحجاب} [ص: 32].
وهذا كثير، قال الزهراوي: معناه بالواجب الذي هو المصلحة والسداد للناس {بالحق} في نفسه، وقوله {وبالحق نزل}، يريد {بالحق} في أوامره ونواهيه وأخباره فبهذا التأويل يكون تكرار اللفظ لمعنى غير الأول، وذهب الطبري إلى أنهما بمعنى واحد، أي بأخباره وأوامره وبذلك نزل، وقوله {وقرآناً} مذهب سيبويه أن نصبه بفعل مضمر يفسره الظاهر بعد، أي {وفرقنا قرآناً} ويصح أن يكون معطوفاً على الكاف في {أرسلناك} من حيث كان إرسال هذا وإنزال هذا المعنى واحد، وقرأ جمهور الناس {فرَقناه} بتخفيف الراء، ومعناه بيناه وأوضحناه وجعلناه فرقاناً، وقرأ ابن عباس وقتادة وأبو رجاء وعلي بن أبي طالب وابن مسعود وأبي بن كعب والشعبي والحسن بخلاف، وحميد وعمرو بن فائد {فرّقناه} بتشديد الراء، إلا أن في قراءة ابن مسعود وأبيّ {فرقناه عليه لتقرأه} أي أنزلناه شيئاً بعد الشيء لا جملة واحدة ويتناسق هذا المعنى مع قوله {لتقرأه على الناس على مكث}، وهذا كان مما أراد الله من نزوله بأسباب تقع في الأرض من أقوال وأفعال في أزمان محدودة معينة، واختلف أهل العلم في كم القرآن من المدة؟ فقيل: في خمس وعشرين سنة، وقال ابن عباس: في ثلاث وعشرين سنة، وقال قتادة في عشرين سنة، وهذا بحسب الخلاف في سن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أن الوحي بدأ وهو ابن أربعين، وتم بموته، وحكى الطبري عن الحسن البصري أنه قال: نزل القرآن في ثمان عشرة سنة، وهذا قول يختل لا يصح عن الحسن والله أعلم، وتأولت فرقة قوله عز وجل {على مكث} أي على ترسل في التلاوة، وهو ترتيل، هذا قول مجاهد وابن عباس وابن جريج وابن زيد، والتأويل الآخر أي {على مكث} وتطاول في المدة شيئاً بعد شيء، وقوله {ونزلناه تنزيلاً} مبالغة وتأكيد بالمصدر للمعنى المتقدم ذكره في ألفاظ الآية،، وأجمع القراء على ضم الميم من {مُكث}، ويقال مَكث ومِكث بفتح الميم ومكث بكسرها، وقوله {قل آمنوا به} الآية تحقير للكفار، وفي ضمنه ضرب من التوعد، والمعنى أنكم لستم بحجة، فسواء علينا آمنتم أم كفرتم، وإنما ضرّ ذلك على أنفسكم، وإنما الحجة أهل العلم من قبله وهم بالصفة المذكورة، واختلف الناس في المراد ب {الذين أوتوا العلم من قبله}، فقالت فرقة: هم مؤمنو أهل الكتاب وقالت فرقة: هم ورقة بن نوفل وزيد بن عمرو بن نفيل ومن جرى مجراهما.
وقيل إن جماعة من أهل الكتاب جلسوا وهم على دينهم فتذاكروا أمر النبي صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه، وقرئ عليهم منه شيء فخشعوا وسبحوا لله، وقالوا هذا وقت نبوة المذكور في التوراة، وهذه صفته، ووعد الله به واقع لا محالة وجنحوا إلى الإسلام هذا الجنوح، فنزلت الآية فيهم، وقالت فرقة: المراد ب {الذين أوتوا العلم من قبله} محمد صلى الله عليه وسلم، والضمير في {قبله} عائد على القرآن حسب الضمير في {به}، ويبين ذلك قوله {إذا يتلى}، وقيل الضميران لمحمد. واستأنف ذكر القرآن في قوله {إذا يتلى}، وقوله {للأذقان} أي لناحيتها، وهذا كما تقول تساقط لليد والفم أي لناحيتهما، وعليهما قال ابن عباس: المعنى للوجوه، وقال الحسن: المعنى للحي، والأذقان أسافل الوجوه حيث يجتمع اللحيان، وهي أقرب ما في رأس الإنسان إلى الأرض، لا سيما عند سجوده، وقال الشاعر: [الطويل]
فخروا لأذقان الوجوه تنوشهم *** سباع من الطير العوادي وتنتف
و {إن} في قوله {إن كان} هي عند سيبويه المخففة من الثقيلة، واللام بعدها لام التوكيد، وهي عند الفراء النافية، واللام بمعنى إلاّ، ويتوجه في هذه الآية معنى آخر وهو أن يكون قوله {آمنوا به أو لا تؤمنوا} مخلصاً للوعيد دون التحقير، والمعنى فسترون ما تجازون به، ثم ضرب لهم المثل على جهة التقريع بمن تقدم من أهل الكتاب، أي أن الناس لم يكونوا كما أنتم في الكفر، بل الذين أوتوا التوراة والإنجيل والزبور والكتب المنزلة في الجملة، {إذا يتلى عليهم} ما نزل عليهم خشعوا وآمنوا.

4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11